الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أَيْ يَتَقَطَّعُ، وَدَخَلَ حَرْفُ (لَا) صِلَةً.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ تَوْكِيدًا، كَقول الْقَائِلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَكَقول أَبِي كَبْشَةَ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا رَدٌّ لِكَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَسَمَ؛ فَقَالَ: أُقْسِمُ، لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُبْتَدَأَةِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ الَّتِي تَكُونُ رَدًّا؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:أَمَّا كَوْنُهَا صِلَةً فَقَدْ ذَكَرُوا فِي قوله: {مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُ صِلَةٌ، بِدَلِيلِ قوله فِي ص: {مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْت} وَالنَّازِلَةُ واحدة، وَالْمَقْصُودُ وَاحد، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ فَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اللَّفْظِ خَاصَّةً.وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَوْكِيدٌ فَلَا مَعْنَى لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا ظَهَرَ الْمُؤَكِّدُ؛ كَقوله: لَا وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُؤَكِّدٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّأْكِيدِ، أَلَا تَرَى إلَى قوله: كَيْفَ أَكَّدَ النَّفْيَ وَهُوَ لَا يَدِّعِي بِمِثْلِهِ؟وَمِنْ أَغْرَبِ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تُضْمَرُ وَيُنْفَى مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ أَبُو كَبْشَةَ: فِي قول.وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْإِلْجَاءِ لِلْفُقَهَاءِ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ الْأُدَبَاء.وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا رَدٌّ فَهُوَ قول لَيْسَ لَهُ رَدٌّ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَيَتَمَكَّنُ اللَّفْظُ وَالْمُرَادُ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:وَأَمَّا مَنْ قرأهَا: {لَأُقْسِمُ} فَاخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَهَا فِي الْخَطِّ كَمَا حَذَفَهَا فِي اللَّفْظِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَصْلٌ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَكْتُبُهَا وَلَا أَلْفِظُ بِهَا، كَمَا كَتَبُوا {لَا إلَى الْجَحِيمِ}.و{لَا إلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} بِأَلِفٍ، وَلَمْ يَلْفِظُوا بِهَا، وَهَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وَشِبْهِهِ، وَلَمْ يَقولوا بِهِ.فإن قيل: إنَّمَا تَكُونُ صِلَةً فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، كَقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وَقوله: {أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} وَنَحْوِهِ؛ فَأَمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فَلَا يُوصَلُ بِهَا إلَّا مَقْرُونَةً بِأَلِفٍ، كَقوله: {أَلَا إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}.فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا: إنَّ القرآن كَكَلِمَةٍ واحدة، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُصِلَ بِهَا مَا قَبْلَهَا لَكَانَتْ: أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.وَهَذَا لَا يَجُوزُ، حَتَّى إنَّ قَوْمًا كَرِهُوا فِي الْقراءة أَنْ يَصِلُوهَا بِهَا، وَوَقَفُوا حَتَّى يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِيَقْطَعُوا الْوَصْلَ الْمُتَوَهَّمَ.وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ نَقول: إنَّ الصِّلَةَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَصِلَةِ آخِرِهِ بِهَا، كَذِكْرِهَا فِي أَثْنَائِهِ؛ بَلْ ذِكْرُهَا فِي أَثْنَائِهِ أَبْلَغُ فِي الْإِشْكَالِ، كَقوله: {مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ} وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ، قَادِحًا فِي زَيْنِ الْفَصَاحَةِ، مُثَبِّجًا قَوَانِينَ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي طَالَ القرآن بِهَا أَنْوَاعَ الْكَلَامِ، وَلَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِهِ الْفُصَحَاءُ الْبُلَّغُ، وَالْعَرَبُ الْعُرْبُ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ، فَلَمَّا سَلَّمُوا فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى أُسْلُوبِهِمْ جَارٍ، وَفِي رَأْسِ فَصَاحَتِهِمْ مَنْظُومٌ، وَعَلَى قُطْبِ عَرَبِيَّتِهِمْ دَائِرٌ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالُوا: قوله: {لَا أُقْسِمُ} قَسَمٌ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:فإن قيل: كَيْفَ أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ.قُلْنَا: هَذَا قَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْهُ عَلَى الْبَلَاغِ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَقُلْنَا: لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَعْظِيمًا لَهَا.فإن قيل: فَلِمَ مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ؟.قلنا: لَا تُعَلَّلُ الْعِبَادَاتُ. وَلِلَّهِ أَنْ يُشَرِّعَ مَا شَاءَ، وَيَمْنَعَ مَا شَاءَ وَيُبِيحَ مَا شَاءَ، وَيُنَوِّعَ الْمُبَاحَ وَالْمُبَاحَ لَهُ، وَيُغَايِرَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِينَ، وَيُمَاثِلَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيمَا كَلَّفَ مِنْ ذَلِكَ، وَحَمَّلَ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.فَإِنْ قِيلَ:فَلِمَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ دَعَائِمَ الْإِسْلَامِ وَفَرَائِضَ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ».قُلْت: قَدْ رَأَيْته فِي نُسْخَةٍ مَشْرِقِيَّةٍ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة: أَفْلَحَ وَاَللَّه إنْ صَدَقَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَصَحَّفَ قوله: وَاَللَّهِ بِقوله: وَأَبِيهِ.جَوَابٌ آخَرُ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقوله: «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ».جَوَابٌ آخَرُ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نَهَى عَنْهُ عِبَادَةً، فَإِذَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْأَلْسُنِ عَادَةً فَلَا يُمْنَعُ، فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ تُقْسِمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْ تَكْرَهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تُعَظِّمُ؛ قَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ: أَظَنَّتْ سِفَاهًا مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهَا لَأَهْجُوهَا لَمَا هَجَتْنِي مُحَارِبُ فَلَا وَأَبِيهَا إنَّنِي بِعَشِيرَتِي وَنَفْسِي عَنْ هَذَا الْمُقَامِ لَرَاغِبُ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أحد فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ: لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ أَيَّانَ نَلْتَقِي لَمَا لَا تُلَاقِيهَا مِنْ الدَّهْرِ أَكْثَرُ يَعُدُّونَ يَوْمًا واحدًا إنْ لَقِيتهَا وَيَنْسَوْنَ أَيَّامًا عَلَى النَّأْيِ تَهْجُرُ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ لَا عَمْرَ غَيْرُهُمْ لَقَدْ كَلَّفَتْنِي خُطَّةً لَا أُرِيدُهَا وَقَالَ آخَرُ: فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَزُورُهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا شَائِعًا كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَائِغًا.الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تَعَالَى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:فِي قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد}: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:أحدهَا وَأَنْتَ سَاكِنٌ، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أُقْسِمُ بِهَذَا البلد الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لِكَرَامَتِك على، وَحُبِّي لَك؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى نَحْوِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ بِهَذَا البلد وَأَنْتَ فِيهِ.الثَّانِي: {وأنت حل بهذا البلد} يَحِلُّ لَك فِيهِ الْقَتْلُ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، لَمْ تَحِلَّ لِأحد قَبْلِي، وَلَا تُحَلُّ لِأحد بَعْدِي، وَإِنَّمَا حُلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ».الثَّالِثُ: وَيَرْجِعُ إلَى الثَّانِي أَنَّهُ يَحِلُّ لَك دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا.الرَّابِعُ قَالَ مُجَاهِدٌ: {وأنت حل بهذا البلد} لَيْسَ عَلَيْك مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ: يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ عَصَمَك.وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:أَمَّا قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد} أَيْ سَاكِنٌ فِيهِ؛ فَيُحْتَمَلُ اللَّفْظُ، وَتَقْتَضِيهِ الْكَرَامَةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ عِظَمُ الْمَنْزِلَةِ.وَأَمَّا الْقول الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقول فِي جَوَازِ الْقَتْلِ بِمَكَّةَ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا؛ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.وَأَمَّا دُخُولُهُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ.وَأَمَّا دُخُولُ النَّاسِ مَكَّةَ فَعَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا لِتَرَدُّدِ الْمَعَاشِ، وَإِمَّا لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ؛ فَإِنْ كَانَ لِتَرَدُّدِ الْمَعَاشِ فَيَدْخُلُهَا حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ الْإِحْرَامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَمْ يُطِقْهُ، وَقَدْ رُفِعَ تَكْلِيفُ هَذَا عَنَّا.وَأَمَّا إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً أَوْ غَيْرَهُمَا؛ فَإِنْ كَانَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ؛ فَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لابد مِنْ الْإِحْرَامِ، وَرُوِيَ عَنْهُ تَرْكُهُ.وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ.وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِحْرَامِ، لِقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ تُحَلَّ لِأحد قَبْلِي، وَلَا تُحَلُّ لِأحد بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ».وَهَذَا عَامٌّ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:قوله: {بِهَذَا البلد} مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ رَبُّهُ بِهَذَا، وَذَكَرَ لَهُ البلد بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ ضَرُورَةً التَّعْرِيفَ الْمَعْهُودَ.وَفِيهِ قولان:أحدهما:أَنَّهُ مَكَّةُ.وَالثَّانِي أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ.وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ البلد بِحَرِيمِهِ، كَمَا أَنَّ الدَّارَ بِحَرِيمِهَا، فَحَرِيمُ الدَّارِ مَا أَحَاطَ بِجُدْرَانِهَا، وَاتَّصَلَ بِحُدُودِهَا، وَحَرِيمُ بَابِهَا مَا كَانَ لِلْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرَاضِي فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَلَهَا حَرِيمُ السَّقْيِ بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِطُ الْمَاشِيَةُ بِالْمَاشِيَةِ مِنْ الْبِئْرِ الْأُخْرَى فِي الْمَسْقَى وَالْمَبْرَكِ، وَمَنْ حَازَ حَرِيمًا أَوْ مُنَاخًا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَهُوَ لَهُ.وَحَرِيمُ الشَّجَرَةِ مَا عَمُرَتْ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «اخْتَصَمَ إلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ، فَأَمَرَ بِهَا». وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا فَذُرِعَتْ، فَوُجِدَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ».وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَقَضَى بِذَلِكَ».وَاَلَّذِي يَقْضِي بِهِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّهُ فِي الْعِمَارَةِ التَّامَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَرْضِ، وَيَأْخُذُ دَوْحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ، إلَّا أَنْ تَسْتَرْسِلَ أَغْصَانُهَا عَلَى أَرْضِ رَجُلٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مِنْهَا مَا أَضَرَّ بِهِ.الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تَعَالَى: {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:العقبة: فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا طَرِيقُ النَّجَاةِ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.الثَّانِي جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ.الثَّالِثُ: عَقَبَةٌ فِي جَهَنَّمَ هِيَ سَبْعُونَ دَرَجَةً، قَالَهُ كَعْبٌ.الرَّابِعُ أَنَّهَا نَارٌ دُونَ الْحَشْرِ.الْخَامِسُ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَعَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ: عَقَبَةٌ وَاَللَّهِ شَدِيدَةٌ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:العقبة فِي اللُّغَةِ هِيَ الْأَمْرُ الشَّاقُّ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالطَّاعَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمُقَاسَاةِ لِلْأَهْوَالِ وَتَعْيِينُ أحد الْأَمْرَيْنِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِخَبَرِ الصَّادِقِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:{اقْتَحَمَ} مَعْنَاهُ قَطَعَ الْوَادِيَ بِسُلُوكِهِ فِيهِ.وَقَالَ اللَّيْثُ: هُوَ رَمْيُهُ فِي وَهْدَةٍ بِنَفْسِهِ.وَقَالَ على: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلِيَقْضِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ.وَإِنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بَعْدَ العقبة لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ تَقَدَّمَ فِي الشَّرْحِ عَلَى الصِّفَةِ بِحُكْمِ النَّظَرِ الْحَقِيقِيِّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ قول مُجَاهِدٍ: إنَّهُ لَمْ يَقْتَحِمْ العقبة فِي الدُّنْيَا؛ وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: {وَمَا أَدْرَاك مَا العقبة}.ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: {فَكُّ رقبة}.وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: {أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة}.ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ: {يَتِيمًا ذَا مقربة}.ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا متربة}، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا.الْمَعْنَى فَلَمْ يَأْتِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسَهِّلُ لَهُ سُلُوكَ العقبة فِي الْآخِرَةِ.تَحْقِيقُهُ: {وَمَا أَدْرَاك مَا العقبة}؛ أَيُّ شَيْءٍ يَقْتَحِمُ بِهِ العقبة؛ لِأَنَّ الِاقْتِحَامَ يَدُلُّ عَلَى مُقْتَحَمٍ بِهِ، وَهُوَ مَا فَسَّرَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: أَوَّلُهَا فَكُّ رقبة.وَالْفَكُّ هُوَ حَلُّ الْقَيْدِ، وَالرِّقُّ قَيْدٌ، وَسُمِّيَ الْمَرْقُوقُ رقبة لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ الَّذِي يُرْبَطُ بِالْقَيْدِ فِي عُنُقِهِ قَالَ حَسَّانُ: وَفَكُّ الْأَسِيرِ مِنْ الْعَدُوِّ مِثْلُهُ؛ بَلْ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ.وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ».وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَعْتَقَ رقبة مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ».وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَظِيمٌ فِي تَكْفِيرِ الزِّنَا بِالْعِتْقِ.وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ سَأَلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ لَا وَهْمَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ، فَغَضِبَ وَاثِلَةُ، وَقَالَ: الْمَصَاحِفُ تُجَدِّدُونَ فِيهَا النَّظَرَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً وَأَنْتُمْ تَهُمُّونَ تَزِيدُونَ وَتُنْقِصُونَ، ثُمَّ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رسول اللّه، صَاحِبُنَا هَذَا قَدْ أَوْجَبَ.قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مُرُوهُ فَلْيُعْتِقْ رقبة؛ فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْمُعْتَقِ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ».وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عُلَيَّةَ، حَدَّثَهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّيلِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ بِنَحْوِ مِثْلِهِ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:قَالَ أَصْبَغُ: الرقبة الْكَافِرَةُ ذَاتُ الثَّمَنِ أَفْضَلُ فِي الْعِتْقِ مِنْ الرقبة الْمُؤْمِنَةِ الْقَلِيلَةِ الثَّمَنِ، لِقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا».وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِدَلِيلِ قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا»، «وَمَنْ أَعْتَقَ رقبة مُؤْمِنَةً»، وَمَا ذَكَرَهُ أَصْبَغُ وَهْلَةً.وَإِنَّمَا نُظِرَ إلَى تَنْقِيصِ الْمَالِ، وَالنَّظَرُ إلَى تَجْرِيدِ الْمُعْتَقِ لِلْعِبَادَةِ؛ وَتَفْرِيغِهِ لِلتَّوْحِيدِ أَوْلَى.وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّرِيحِ مِنْ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:إطْعَامُ الطَّعَامِ قَدْ بَيَّنَّا فَضْلَهُ، وَهُوَ مَعَ السَّغَبِ الَّذِي هُوَ الْجُوعُ أَفْضَلُ مِنْ إطْعَامِهِ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ، أَوْ عَلَى مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ.وَإِطْعَامُ الْيَتِيمِ الَّذِي لَا كَافِلَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ إطْعَامِ ذِي الْأَبَوَيْنِ لِوُجُودِ الْكَافِلِ وَقِيَامِ النَّاصِرِ، وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:قوله تَعَالَى: {ذَا مقربة} يُفِيدُ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْبَعِيدِ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ بِهِ قَبْلَ الْمِسْكِينِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي النَّفَلِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ قوله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا متربة} وَالْمتربة: الْفَقْرُ الْبَالِغُ الَّذِي لَا يَجِدُ صَاحِبُهُ طَعَامًا إلَّا التُّرَابَ وَلَا فِرَاشًا سِوَاهُ.وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
|